النقد الأدبي في خمسينات القرن العشرين؛ بداية لمرحلة نقدية جديدة
د. أحمد كامل ناصر
انتهت الحرب العالمية الثانية، عام 1945 تاركة وراءها آثارًا بارزة في الوطن العربي كله. هذه الآثار تتجلى فيظهور المعسكر الاشتراكي بقيادة الاتحاد السوفيتي الذي أدى إلى تعزيز نضال الطبقة العاملة في البلدانالرأسمالية، كما تتجلى في تنامي الوعي الوطني والقومي والطبقي في العالم العربي إضافة إلى التطورات العلميةوالتكنولوجية التي ازدهرت في هذه المرحلة. واجتاحت العالم العربي موجة من النهوض الثوري، تستهدفالتحرر الكامل من الاستعمار والاستعباد، كما أنّ رجوع عدد من المثقفين العرب إلى بلادهم بعد أن قضوا فيالغربة سنوات طويلة؛ وكان بينهم كثيرون من الأدباء، والأطباء، والمهندسين، والمحامين، والفنانين، وغيرهممن مختلف الاختصاصات العلمية والأدبية عزز نشاطهم في ميادين الحياة المختلفة لاسيما الثقافية منها، وشكلدعمًا مهمًا للتطور الثقافي. ويبدو أنّ ذلك قد انعكس في ازدياد الوعي في مختلف الأصعدة الفكرية، فشاعت فكرةالالتزام، وازداد اهتمام الناس بتتبع الأحداث السياسية والمنشورات الحزبية التقدمية. وقد لعبت القوى الفكريةوالسياسية التي تمثلها في مصر دورًا مهمًا في هذا المجال، ولعل من أبرزها كانت قوى الفكر اليساريوالتقدمي. والحقيقة التي يجب أن تذكر هنا هي أنّ النشاط الأهم للأحزاب والقوى الفكرية في المجال الثقافيوالأدبي انعكس على الأدباء وعلى نتاجهم الأدبي، ومن ثم على أثر هذا النتاج في المجتمع المصري.[1] وإنّنظرة سريعة إلى أسماء الشخصيات الأدبية التي كانت في فترة الخمسينات منتمية إلى القوى التقدمية تكشف عن أهمية الوضع السياسي في الحياة الأدبية. ويكفي أن نشير على سبيل المثال لا الحصر، إلى محمود أمين العالم،عبد العظيم أنيس، حسين مروة، لويس عوض، لندرك أنّ السياسة استطاعت أن تستقطب إلى جانبها الأدباءالشباب في تلك المرحلة الزمنية.
لقد طرح الفكر اليساري منذ أربعينات القرن الماضي، عدة قضايا جوهرية أهمها: قضية الأديب ودوره فيالمجتمع العربي، وقضية الثقافة العربية مقارنة بالثقافة الغربية، وقضية الالتزام، وقضية الأدب الإنساني،والواقعية الاشتراكية وغيرها. ولم تكن هذه الطروحات في نطاق حدود مصر فحسب، بل تجاوزتها لتبلغ مختلفالبلدان العربية دون استثناء. واستحوذت قضية تجديد الأدب بشكل عام على اهتمام الأدباء الشباب، ونوقشتالمدارس النقدية، والفنية والأدبية، وازداد الاهتمام بالمضمون باعتباره نقطة الانطلاق في عملية التحولوالتجديد.[2] ومن الجدير بالذكر أنّ النقاد اليساريين كافحوا بشدة نظريات الفصل بين الشكل الفني والمضمون.وننوه هنا أنّ هذا التغيير ما كان له أن يتم بمعزل عن حركة التطور العام، المرتبط بنضج القوى الفكريةوالسياسية. في حين هيأت سنوات الخمسينات الظروف الملائمة لهذا الطموح، عبر جيل جديد من الشبابالمثقف الذي نما عدديًا ونوعيًا وخاصة في المدارس والمعاهد والكليات.
ولا جدال في أنّ هذه الحقبة الزمنية، شهدت انطلاقة جديدة في النقد الأدبي عرفت بمرحلة الخمسينات. وكانت بداية هذه الانطلاقة حين كتب عميد الأدب العربي طه حسين مقالاً نشره في جريدة الجمهورية عام 1954، يقول فيه "إنّ اللغة هي صورة الأدب والمعاني دلالته". وقد رد محمود أمين العالم وزميله عبد العظيم أنيس على هذا المقال بمجموعة مقالات نشرت في كتاب في الثقافة المصرية (1955) يرفضان هذا التصور. ويبدو أنّ هذا الكتاب لم يلق استحسانًا في الأوساط الأدبية التقليدية؛ فما أن نشر حتى تفجرت حوله حوارات ومعارك نقدية شكلت نقلة جديدة في النقد الأدبي وصفت بأنّها معركة الجيلين: الجيل القديم بزعامة طه حسين والعقاد، والجيل الجديد أو جيل الشباب، ويمثله محمود أمين العالم، وعبد العظيم أنيس، وحسين مروة. ويشير ألن روجر في كتابه The Arabic Literature Heritage (1998)، أنّ هذا الصراع الفكري العنيف جر وراءه سجالات نقدية جديدة ناقشت مواضيع لم تطرح من قبل مثل: الأدب صورته ومضمونه، الصراع بين القديم والجديد، قبول الثقافة الغربية أو رفضها ومواضيع أخرى.[3]
وتجدر الإشارة إلى أنّ معركة الجديد والقديم حين نشوئها في هذه المرحلة، جاءت في مرحلة التحرر القومي العامّ. فالمثقفون العرب الذين وجدوا أنفسهم في إطار إقليمي قومي بعد الثورة الناصرية 1952، كافحوا من أجل نيل الاستقلال وإلغاء الاستعمار والاستعباد بشتى الطرق، وبجميع الوسائل المتاحة لهم، معتمدين على القوى السياسية والحزبية من ناحية، وعلى الحركات الثقافية والفكرية من ناحية أخرى. وربما استحقت ملاحظة محمود أمين العالم شيئًا من الوقوف حيث يذكر "أنّ تاريخ النقد الأدبي أو الثقافي عامة طوال هذه المرحلة، كان من أبرز معالم الصراع الطبقي فيها. وقد اتخذ هذا الصراع مظاهر متعددة، ولكنه في جوهره، كان يدور حول الوظيفة الاجتماعية للثقافة بوجه عام".[4] ولا نريد هنا أن نستعرض هذا التطور المتعدد الجوانب، ولكننا نود أن نعود ونؤكد قيام المناهج النقدية الجديدة التي استرشدت في سجالاتها ومناقشاتها بالفكر الماركسي الذي استحوذ على الكثير من النقاد والمفكرين العرب آنذاك؛ فاتخذوه منهجًا من مناهج الحياة الأدبية في المجتمع العربي.
ولعل هذه المعارك الأدبية كانت سببًا في ظهور مدارس نقدية أدبية جديدة تجاوزت حدود مصر إلى بلاد عربية أخرى كسوريا ولبنان، حيث شهدت معارك نقدية أثارت موضوع الصراع بين القديم والجديد، إضافة إلى مدى تقبل الحضارة الأوروبية أو رفضها.
إنّ الحديث عن دعائم الثقافة العربية في لبنان وبلاد الشام يلزمنا أن نقف وقفة على مجلة الآداب البيروتية التيأنشأها سهيل إدريس (1925-2008) سنة 1953 بالاشتراك مع منير البعلبكي (1918-1999) وبهيجعثمان (1921- 1985)، ثم تفرد بها سنة 1956. كانت مجلة الآداب بمثابة السجل الأبرز والداعم لحركةالأدب والثقافة في العالم العربي إذ أنها تضمنت ملفات مهمة في الفكر السياسي، والشعر، والرواية، والقصة،والمسرح، والثقافة العامة، واعتبرت المنبر الأهم في الثقافة العربية.[5]
وما يجدر ذكره، أنّ مجلة الآداب البيروتية صدرت في السنوات الأولى من خمسينات القرن الماضي حيث كانتالثقافة العربية قد خطت خطوات لا بأس بها نحو مرحلة جديدة تهدف إلى بناء ركائز الحداثة متمثلة بأبعادسياسية تطرح التصور القومي للكيان السياسي العربي في تصوراته الأيديولوجيات السياسية المختلفة. كما هدفت إلى طرح أبعاد اجتماعية تتمثل في صعود أنواع جديدة من النخب الاجتماعية واحتلالها الصفوف الأولىمن عمليات الحراك الاجتماعي والاقتصادي والسياسي إلى جانب أبعاد معرفية وثقافية؛ فالتاريخ الثقافي بمعناه الواسع والإنتاج اللغوي والأدبي كانا الشاغل الرئيسي لمختلف النخب الثقافية المنتخبة والمعبرة عن مختلف تيارات النسيج الاجتماعي العربي في أوائل خمسينيات القرن العشرين.
ضمت مجلة الآداب سلسلة من الكتابات تحت عنوان "تجربتي الشعرية"، بأقلام عدد من كبار شعراء حركة الشعر الحديث، مثل: أدونيس (1930- )، الذي تبنى آنذاك رؤية عروبية خاصة به بدلاً من رؤيته الأصلية الأولى، التي عبرت عن أيديولوجية الحزب القومي السوري، ومحمد الفيتوري (1930-)، الذي نشأ كشاعر سوداني في أحضان التيار الوجداني المثمر المتأثر بنظائره في مصر ولبنان وسورية قبل أن يتحول إلى تبني رؤية مستقبلية تتمسك بالجمع بين انتماءين عربي وأفريقي، وصلاح عبد الصبور (1931-1981) صاحب النزعة الوجدانية والفردية سويًا، والذي تتنازعه دوافع متعارضة بين الفعل والتأمل، والسائر على أشواك الحدود الفاصلة بين اليسار المصري والليبرالية المثالية والنزوع القومي الناصري،[6] وأحمد عبد المعطي حجازي (1935- ) الذي كان قد ولد كشاعر في حضن الحركة الوجدانية الرومانتيكية المتجردة المصرية قبل تحوله المبكر إلى تبني الرؤية القومية السائدة.
وتجدر الإشارة أنّ مجلة الآداب نشرت عدة دراسات نقدية مهمة كتبت بأقلام أدباء مدافعين عن الشعر الحديث، وعن التجديد الثقافي والاجتماعي والسياسي العربي بشكل عام مثل: الأديب الناقد اللبناني رئيف خوري (1913-1967)، والناقد الفلسطيني إحسان عباس (1920-2003)، والناقد المصري شكري عياد (1921-1999)، وجبرا إبراهيم جبرا (1924-1994)، والناقد السوري مطاع صفدي (1929- ) الذي كتب عن الشعر الحضاري، وعز الدين إسماعيل (1929-2007) حيث كتب عن الشعر الحديث والتراث، داعيًا أصحاب الشعر الحديث إلى بعض الأصالة، وغيرهم ممن ينتمون إلى مختلف ألوان الطيف الأيديولوجي واتجاهات الذائقة الفنية والشعرية.[7]
لا شك أنّ انتشار مجلة الآداب ساهم إلى حد كبير في ظهور عدد من المجلات الأدبية التي انشغلت في الثقافة العربية، بما فيها الشعر العربي الحديث والنقد الأدبي. ففي عام 1957 قامت في لبنان مجموعة من الشعراء والنقاد والمثقفين العرب بتأسيس مجلة شعر. وقف على رأسهم: يوسف الخال، وأدونيس، ومحمد الماغوط وأنسي الحاج وآخرون. والواقع أنّ هذه المجلة أضافت بجديدها في إذكاء الوعي بالتحولات الثقافية والفنية في الوطن العربي، وذلك بنشر الأدبيات الماركسية والوجودية. واعتبرت مجلة شعر أحد أهم المنابر الثقافية التي أسهمت في التعريف بالنتاج الأدبي العربي والغربي. وكانت الأكثر رواجًا بين الشعراء والنقاد والمثقفين عامةكما أنّها كانت المحفز الأساسي لهم لإعادة قراءة الموروث قراءة جديدة بعيدة عن الخطاب الشعري التقليدي الاتباعي المحافظ. وقد طرحت عدة مواضيع للنقاش مثل: الحداثة، والتراث، والواقع والخيال، والشرق والغرب، والتنظير الشعري للقصيدة الحديثة وللرؤيا. وتعالت أصوات تنادي بضرورة إعادة النظر في المسلمات الشعرية المعروفة كالوزن والقافية. ومواضيع أخرى تبلورت مضامينها مع رواج مجلة شعر حيث كانت أول منبر عربي كرس نفسه للشعر العربي الحديث وقضاياه[8]. وكان اهتمام المجلة قد انصب على السير إلى الأمام بالشعر العربي على ضوء ما توصل إليه الغرب من تحولات في البنية الشعرية ولغتها وصورها. إنّ مجلة شعر لم تكتف بتذويب التراث العربي في إطار إنساني عام، بل إنّ هذا التراث الذي شكل هاجسًا في التنظير للشعر كان يدعو إلى تأطير التراث العربي في التراث الإنساني. فحركة المجلة انطلقت من مفهومها للغرب وتعاملها معه.[9]وذلك من منظور يلغي المسافة بين الشرق والغرب. ويشير أدونيس إلى أنّ شعر سعت إلى إثبات إنّ للشعر وظيفة قد ترقى إلى وظيفة العلم، وأنّ هذه الوظيفة تكمن في الكشف عن هذا اللامرئي الذي ينتصب وراء العالم المرئي المحسوس.[10]
وفي سياق آخر، قد يؤخذ على مجلة شعر أنها رفضت ما كان يسمى إلى عهد قريب الشعر الملتزم. في الوقتالذي أعتبر هذا النوع من الشعر أداة خاصة في المعركة من أجل القومية والوحدة. من هنا فإنّ الذين حاكمواالحركة فعلوا ذلك انطلاقًا من عدم التزامها بالترويج لشعارات تلك المرحلة. مع ذلك يعتبر الكثير من النقاد أنّمجلة شعر بمثابة نقطة فاصلة في تاريخ تطور القصيدة العربية، لأنّها على الأقل، استطاعت أن تثير الجدل الحادوالمتواصل. ويؤكد شكري عياد أنّ شعر لا تلتزم بأي خط سياسي، بل إنّ ارتباطها بالحداثة الأوروبية يتضمنالمبالغة في تأكيد حرية الإبداع، على أنّ حداثة شعر لها مضمونها الحضاري. وتبنت شعر من الحداثة الغربيةلغة شعرية غامضة، صادرة من أعماق الشعور، أو اللاشعور، كما تبنت قصيدة النثر لأنّها ترفض الإيقاع النمطيالجاهز وتبني إيقاعها الخاص المعبر عن نفسية قائلها[11]. وقد عبر أدونيس بوضوح أكبر أثناء حديثه عنالثورة على التراث ذاكرًا أنّ "الثورة لا تقول إنّ الفن الثوري هو فن الذات. أي فن الإبداع الشخصي، إلاّ لأنّالذات كانت غائبة. لم تكن ثمة ذات، بل أشياء ومنظومات ومؤسسات، إلا لأنها تريد إعادة الوحدة بين الذاتوالموضوع. لكن هذه الذات لا تتحقق إلاّ بعد التهديم الشامل النهائي للبنى الثيوقراطية الإقطاعية وعلاقاتها.وهذا التهديم يكون، على الصعيد الإبداعي الشعري، ذاتيًا أو لا يكون".[12]
وصفوة القول: حاولنا في هذا المقال أن نرصد بداية مرحلة نقدية جديدة من مراحل تطور النقد الأدبي، عرفتبمرحلة الخمسينات من القرن العشرين. ورأينا أنّ النقد الأدبي تطور وازدهر في هذه المحطة الزمنية الهامة التي شهدت تغيرات سياسية واقتصادية وتكنولوجية واجتماعية وفق المتغيرات السياسية، والاقتصادية،والتكنولوجية والاجتماعية طرأت على الشرق العربي؛ فأثرت على بنيته الفكرية والثقافية. ووقفنا على أهم النقادالذين أثروا على النقد الأدبي وأثاروا معارك نقدية أدبية تجاوزت أصداؤها حدود بلادهم أمثال: محمود أمينالعالم وعبد العظيم أنيس في مصر، وجماعة مجلة الآداب البيروتية بريادة سهيل إدريس، وجماعة شعر بزعامةأدونيس ويوسف الخال في لبنان.
ثبت بالمراجع
أدونيس، 1971 أدونيس (1971)، مقدمة للشعر العربي، بيروت، دار العودة.
أدونيس، 1993 أدونيس (1993)، النص القرآني وآفاق الكتابة، بيروت، دار الآداب.
بواردي، 2003 بواردي، باسيليوس حنا (2003)، مجلة شعر والحداثة الشعرية العربية، أطروحة دكتوراة-
جامعة حيفا، قسم اللغة العربية وآدابها.
بواردي، 2005 بواردي، باسيليوس حنا (2005)، " أدونيس والهوية المضمرة نحو نص شعري أيديولوجي"، زيتونة
الجليل: أبحاث ومقالات مقدمة للأديب والشاعر الأستاذ حنا أبو حنا، حيفا، مكتبة كل شيء، ص 43-67.